العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. كلية الحقوق .. أنا صاحب القراطيس

يمنات

أحمد سيف حاشد

ها أنا أدلف باب مسار جديد في حياتي .. نقطة تحول جديدة، ستنتهي في أغلب الأحيان إلى مهنة المحاماة أو القضاء .. في الحالتين أنا أروم العدالة .. أبحث عنها .. أريد أن أرفع الظلم عن كاهل الناس .. العدالة رسالة إنسانية رفيعة المقام .. ألم يقل فولتير إن “أعظم عمل إنساني هو رد العدالة لمن فقدها” .. العدالة نبوة سامية و راحة ضمير، تستحق العبادة أكثر من العبادة التي أعتدنا عليها من الفجر حتى الثلث الأخير من الليل .. أليس نبيا من قال: “عدل ساعة خيرا من عبادة ستين عام” .. ما أحوجنا للعدالة في هذا العالم غير العادل..

الظلم نذير شؤم لخراب عميم .. قالها يوما عالم الاجتماع أبن خلدون «الظلم مؤذن بخراب العمران» .. كم كان جيفارا ثائرا و عظيما و هو يقول: “أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم” الضمير الحي يرفض أن ينام طالما هناك ظلم في مكان ما من العالم، و طالما بإمكاننا أن نفعل شيء في مقاومة الظلم فلماذا لا نفعل..؟! و طالما نستطيع اعتراش منصة القضاء لإقامة العدالة، فلماذا نرجيها إلى يوم القيامة..؟!! لا زال ذلك الصوت الذي يقول: “يا ما في السجون مظاليم” يتردد على مسامعي، و صوت الظلم على المسامع لحوح و ثقيل .. المظالم تحز في النفوس، و تترك ندباتها في الوعي و الوجدان..

لازال أمامي من السنوات أربع، يجب أن أعطيها ما استطعت من المثابرة و الجهد .. ما كان قيد الحلم والتمني قبل أربعة أعوام صار اليوم واقعا و حقيقة .. كنت كرغبة أميل للمحاماة أكثر من ميلي للادعاء. و كان ميلي للقضاء أكثر؛ لأن تحقيق العدالة متعلقة به .. القاضي و هو يمارس القضاء يكون أسرع بتا في تحقيق و إقامة العدالة .. القاضي يجب أن يكون هو المعني الأكثر في تقرير الحق، و إنصاف المظلومين، و رفع الظلم عن الكواهل .. سلطة القاضي يمكن أن تكون طريقا إلى جنة الضمير، و على نحو أسرع و أوجز.

ربما بدا لي الحال هكذا في البداية. ساجلت صديق في هذه المسألة لعله عبده طه إن لم تخنِ الذاكرة، انتهت إلى أن رأيت إن في الأمر ترابط و تكامل. يجب ألا انتقص من مهنة لصالح أخرى، فيما النتيجة الأفضل تقررها المهن الثلاث. فالقاضي و الادعاء و المحامي جهود متكاملة تحقق في مجموعها العدالة المرتجاة، أو هذا ما يفترض أن يكون عليه الحال.

حدثت نفسي و قلت: من المهم أن أجدُّ و اجتهد من الآن، و لا زال أمامي لأختار أربع سنوات طوال .. لا زال الأمر بعيدا، إن كان للاختيار متسع .. و لكن بإمكاني الآن أن أحب أيضا، و التفوق في الدراسة مسؤولية كبيرة يجب أن أكون بمستواها، و قد بات تحملها في متناول الإمكان..

في أول يوم دخلت كلية الحقوق شعرت أن حياة جديدة تنتظرني. أحسست أنني أقبل على حياة أعيشها أول مرة. شعرت إن الاختلاط كان حلما بعيد المنال، و تمنيت أن يتم التظاهر من أجله في المرحلة الثانوية احتجاجا لغيابه في مدرسة البروليتاريا، و عندما ولجت السلك العسكري أدركني اليأس أن أجد يوما اختلاط مما حلمت به، و لكن ها أنا اليوم أقبل عليه لأول مرة. هنا سيتحقق الحلم، و أفوز بقلب فتاة أحبها و تحبني.

كم هو سعيد أن يفوز المرء في الجامعة بفتاة يحبها و تحبه. كم هو رائع أن تجد ما يدفعك لأن تذاكر و تتفوق لتلتفت إليك عيون فتاة .. كم تشعر بالرضاء و أنت تثابر من أجل أن ترى كل يوم جمال ورقة و حياة تنبض بالنور و الأمل.

و لكن خبرتي في الحب و أسر القلوب تقول أنني فاشل مع مرتبة الشرف .. فبدلا من أن أشتري دفاتر أنيقة لتدوين الدروس و الملاحظات اشتريت سجلات “دكاكين”. تميزت بهم، و فوق ذلك تميزت أنني كنت أضعها كل يوم في قرطاس “كاكي” جديد لأن القرطاس السابق يتلف من استخدام يوم واحد بسبب عدم الرفق به من قبلي و من قبل السجلات التي تكتظ داخله..

كما كانت طريقة تعاملي مع السجلات و أكياس “الكاكي” تعامل عسكري يمارس الجلافة بعيدا عن الرقة و الإتكيت. و كانت بعض الطالبات يسمينني في همساتهن الخاصة فيما بينهن بـ”صاحب القراطيس”. و أحيانا كنت أضع قرطاس بداخل قرطاس بعد أن ينبعج الأول في أحد أركانه، أو يشتط بسبب جلافة إدخال السجلات إلى داخله.

كنتُ أحب أن أكون مميزا و منفردا في أمور شتّى، و لكن بهذه السجلات و هذه القراطيس كان تميزي أشبه بتميز فطوطة ببنطاله و قميصه..

لقد فكرتُ بالتحرر من هذا الوضع في هذه الجزئية بشراء حقيبة جلدية و لكن كان طول السجلات أطول من طول الحقيبة، كما أن الحقيبة ضيقة و لا يمكن أن تستوعب أربعه سجلات أو أكثر.

فكرت بحقيبة دبلوماسية، و لكن لا أرى من الطلبة من يحمل كراساته في حقيبة دبلوماسية .. و كانت واقعة صديقنا محمد صالح “من يافع” و المنتدب من وزارة الداخلية للدراسة في كلية الحقوق تمنعنا من أن نكرر ما فعل .. في اليوم الأول، و قبل أن نتعرف على طاقم التدريس جاء محمد صالح، و كان عمره كبير نسبيا مقارنة بنا .. جاء في بدلة مهابة و نظارة بيضاء، و يحمل حقيبة دبلوماسية، و فيها كراريسه، و ما أن دخل القاعة دخلنا بعده نتزاحم و نظن أنه الأستاذ، و إذ نجده يحجز كرسي في القاعة، و عند سؤاله اكتشفنا إنه طالب و ليس دكتور. ففقشنا من الضحك..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى